المادة    
ولذلك لما ذكر الإمام البخاري رحمه الله -وهو من الذين يقولون بأن الإيمان والإسلام مترادفان- باب: إذا كان الإسلام على الاستسلام ولم يكن على الحقيقة، وذكر آية الحجرات، وحديث سعد في الصحيح: ( عندما كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي رهطاً من الناس مالاً، فقال سعد : يا رسول الله! أعط فلاناً؛ فإني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، قال فلم أصبر فأعدت عليه ثلاث مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلماً، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه؛ خشية أن يكبه الله على وجهه في النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري و مسلم و أحمد وغيرهم.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يفرق وخاصة في مقام التزكية، فيقول: (أو مسلماً) يعني: لِمَ لم تقل: إني أراه مسلماً؛ فلا أنازعك، فيرشده إلى أن يقول القول المقتصد في ذلك: (أو مسلماً).
فالصحابي معاوية رضي الله تعالى عنه لما جاء بالأمة إن كان يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أهذه الجارية مؤمنة أو مسلمة؟ فإنه يكون مثل حديث سعد ، وإن كان إنما جاء ليسأله: أتجزئ أو لا تجزئ؛ فإن الجواب بقوله: (أعتقها) كافٍ؛ لأنها تجزئ، فما هو المراد بالاتفاق -وهذا واضح من نص الحديث- أنه إنما جاء ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجزاء لا عن الإيمان، فعلى هذا يكون كلام الإمام أحمد رحمه الله لا اعتراض عليه، وكلام الشيخ الألباني صحيح، لكن قد يفهم القارئ منه أنه يستدرك على الإمام أحمد ويعترض على كلامه، فنقول: لا، فكلام الإمام رحمه الله واضح، فلم يطعن في الرواية الأخرى، ولم يقل: هي غير صحيحة، وإنما ذكر الرواية التي هي مقتصرة على الجواب بالحكم، وأوضح ذلك فقال: وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه، أي: فليس صحيحاً ما تقوله المرجئة من أن الإيمان هو القول فقط.
وأيضاً ليس شرطاً أن يكون صحيحاً ما يقوله بعضهم: إن الإسلام والإيمان مترادفان، قال الراوي: قلت لـأبي عبد الله : تفرق بين الإيمان والإسلام؟ قال: قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد -زعموا- يفرق بين الإيمان والإسلام. قيل له: من المرجئة ؟ قال: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل.
قلت -القائل شيخ الإسلام -: فـأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سُلب جميع الإيمان؛ فلم يبق معه منه شيء، والشيخ ذكر هذا هنا في حكم الفاسق الملي، وهو رحمه الله يفرق بين الإيمان والإسلام، فالفاسق مرتكب الكبيرة هو عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى مسلم وليس مؤمناً، وهذا الكلام هو في الناحية الحكمية.
  1. توضيح شيخ الإسلام لمسألة التفريق بين الإسلام والإيمان

    وكلام شيخ الإسلام رحمه الله في (ص:44) يوضح ذلك، فيقول: (قلت: تفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ وإن اقتضى أن الأعلى هو الإحسان، والإحسان يتضمن الإيمان، والإيمان يتضمن الإسلام؛ فلا يدل على العكس، ولو قدر أنه دل على التلازم فهو صريح؛ لأن مسمى هذا ليس مسمى هذا) فالتلازم يكون بين شيئين مختلفين، ففرق بين التلازم وبين الترادف، فنحن نقول: إن القول المرجوح هو القول بأن الإيمان والإسلام مترادفان، وأما من يقول: إنهما متلازمان؛ فهذا حق.
    يقول: (لكن التحقيق أن الدلالة تختلف بالتجريد والاقتران كما قد بيناه، ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة في كثير من المواضع حادت عنها طوائف في مسألة الإيمان وغيرها).
    هذا كلامه رحمه الله، وفعلاً كما أوضحنا من قبل أن هذا الموضوع مهم، وقد ذكره الشيخ رحمه الله في الأول، ثم أخذ ينتقد بعض الكلام الذي قاله ابن الصلاح ، و محمد بن نصر المروزي رحمهم الله وغيرهم من العلماء الذين تكلموا في موضوع الإسلام وفي أركانه.
    قال شيخ الإسلام : واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق، ويتناول أصل الطاعات؛ فإن ذلك كله استسلام.
    فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان، هذا الكلام لـابن الصلاح .
    وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام؛ التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا: (فيقال: هذا الذي ذكره رحمه اللّه فيه من الموافقة لما قد بين من أقوال الأئمة، وما دل عليه الكتاب والسنة ما يظهر به أن الجمهور يقولون: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
    وقوله: إن الحديث ذكر فيه أصل الإيمان وأصل الإسلام؛ قد يورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان والإسلام بما هو من جنس الجواب بالحد عن المحدود، فيكون ما ذكره مطابقاً لهما لا لأصلهما فقط، فالإيمان هو الإيمان بما ذكره باطناً وظاهراً، لكن ما ذكره من الإيمان تضمن الإسلام، كما أن الإحسان تضمن الإيمان).
    أي: أنه عندما أراد الشيخ ابن الصلاح رحمه الله وغيره أن يوفقوا بين الأقوال؛ فقالوا: إن الإسلام يطلق على أصل الدين، والإيمان أيضاً يطلق على أصل الدين، فكأنهم يقولون: أنهما أحياناً يكونان مترادفين، وأحياناً ينفصلان.
    وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد بنا كتابه هذا كله ورأيه في المسألة على حديث جبريل عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان، وعن الإسلام، وعن الإحسان بما يجاب به في علم المنطق، وفي علم التعريف، وهو: الجواب بالحد عن المحدود، والحد: هو التعريف الجامع المانع المنضبط، فهو صلى الله عليه وسلم لما قال له جبريل: أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام كذا، فأجاب بالحد الجامع المانع عن المحدود، فعلى هذا لا ينبغي لنا أن نفسر ذلك بتفسير آخر، فهو يرى الوقوف عند هذا، وأما ما قاله من التلازم بينهما كذلك فهو حق، وهو قول جمهور الأئمة.
  2. قول الزهري في التفريق بين الإسلام والإيمان

    ثم ينقل نقلاً، وهذا قد نقله الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح، وكذلك نقله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وهذا من أقدم ما ورد عن السلف في التفريق بينهما.
    قال الزهري : الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.
    وقد جاءت هذه الكلمة من الزهري رحمه الله في آخر حديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدم ذكره، وهو في صحيح البخاري ، وذكر الحافظ رحمه الله أنه في إحدى الروايات قال الزهري بعد أن روى الحديث السابق قال: فنرى الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.
    فعلى كلامه رحمه الله يكون الإسلام هو الإقرار، ويكون الإيمان هو العمل، أي: أن تحقيق هذا الإقرار يكون بالعمل، ولا يعني هذا: أن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كانوا يسمون الإنسان إذا أقر وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يعمل؛ أنهم يسمونه مسلماً بدون أي اعتراض، فلابد من النظر إلى التلازم، فمهما اختلفت العبارات فالجميع يعلم أن التلازم بينهما لا بد منه.
    فـالزهري رحمه الله هنا: يعبر عن فهمه، وهذا الفهم وافقه عليه غيره، وهو: أن الإسلام هو الإقرار، فمن أقر قيل: أسلم، ودخل في الإسلام، وأن الإيمان هو العمل، وهذا دليل على أن الإسلام مرتبة أدنى، والإيمان مرتبة أعلى، وأن التلازم بينهما وارد؛ فهو لم يفهم أن أحداً يقر ولا يعمل، فهذا الكلام من الزهري لا يترك على إطلاقه؛ خشية أن يفهم منه بعض الناس أن من السلف من يظن أن الإسلام يكفي فيه أن يقول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد ظهر هذا مع الأسف كما تعلمون، فأما المرجئة فقد أظهروا ذلك وأعلنوه، وبعض من ينتمي أيضاً إلى عقيدة أهل السنة والجماعة قد يقع في هذا الخطأ، وربما دفعهم هذا إلى القول بأنه ليس شيء من الأعمال تركه كفر، أي: أن الإنسان مهما ترك من الأعمال فهو يظل مسلماً ولا يكون كافراً، وهذا غير صحيح أبداً؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعوا على كفر تارك الصلاة الترك المطلق المستبين الذي يأبى صاحبه معه أن يصلي لله تبارك وتعالى، فهذه الحالة هي في الترك المطلق، وهذا التارك للصلاة تركاً مطلقاً هو أيضاً يكون تاركاً للصيام، فلو صام لا يصح منه، ويكون تاركاً لبقية الأعمال.
    فهذا الذي ترك العمل كلية ولم يعمل عملاً من أعمال الإسلام قط؛ إلا أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: أنا مسلم؛ لا يصح أن نحمل كلام الزهري عليه، ولا نقول: إنه قد جاء بالإسلام ولم يأت بالإيمان فهو مسلم! لا، فالتلازم موجود، والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كلهم يعتقدون هذا التلازم، فـسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه كان يعلم ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (أو مسلماً) لم يكن يقصد أنه فقط لديه الإقرار الظاهر وليس لديه من الإيمان شيء أبداً؛ لأنه إذا كان مسلماً فلا بد أن يكون لديه أصل الإيمان، وكذلك الزهري لما فسر الحديث بهذا، وهكذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف أجمعون.
    ولهذا نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر هذا انتقل ليذكر الخلاف فيمن ترك الأركان الخمسة أو بعضها.
  3. قول الإمام أحمد في التفريق بين الإسلام والإيمان

    ثم ذكر شيخ الإسلام رواية مهمة جداً عن الإمام أحمد رحمه الله، يقول: (قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الإسلام والإيمان، فقال: الإيمان: قول وعمل، والإسلام: الإقرار.
    وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الإسلام فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم، فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قاله جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم أيضاً؟ فقال: هذا معاند للحديث).
    وحديث جبريل المعروف له عدة روايات صحيحة، فيقول فيها جبريل عليه السلام بعد أن سأله: ( يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ).
    إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، ثم قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر ) إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ).
    ويعني الإمام أحمد: لو أن أحداً لم يفعل هذا الأمور، ويقول: أنا مقر ومصدق بالإسلام؛ فإنه يكون معانداً للحديث؛ لأن الحديث قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) أي: أنه لو لم يفعل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول له: نعم.
    (وقال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان: الإيمان أوكد أو الإسلام؟
    قال: جاء حديث عمر هذا -يعني: حديث جبريل عليه السلام-، وحديث سعد أحب إلي) لأنه أكثر إيضاحاً في الفرق بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبه سعداً ويقول له: اعدل عن هذا القول إلى ذاك، أي: لا تقل: مؤمناً، وإنما قل: مسلماً، فهو أحب إليه من جهة أنه أوضح في الدلالة على أن الإيمان أوكد، فهو الأهم والمرتبة الأعلى.
    وكأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام، فيكون مسماه أفضل، وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا بالأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيماناً إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، أي بتحقيق الإيمان الذي هو حديث جبريل.
    قال: فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد ، فلا منافاة بين الحديثين.
    قال: (وأما تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان فكان يقوله تارة، وتارة يحكي الخلاف ولا يجزم به، وكان إذا قرن بينهما تارة يقول: الإسلام: الكلمة، وتارة لا يقول ذلك، وكذلك التكفير بترك المباني).
    والمقصود بالمباني: الأركان الأربعة وليس الخمسة؛ لأن من ترك الشهادة فهو كافر بالإجماع، وهذا قبل أن يشذ المرجئة ، فبعض المرجئة يقولون: لا يكون كافراً إذا عرف بقلبه، والصحيح: أنه لا يكون مؤمناً لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الظاهر ولا في الباطن إذا لم يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    (قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله ! تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ).
    إذاً: فالإمام أحمد يريد أن يقول: إن السارق والزاني ومرتكب الكبيرة لا يفعل ذلك وهو مؤمن، لكنه يظل مسلماً، فهو يفرق بين الإسلام وبين الإيمان.
    ثم قال رحمه الله: (وقال الله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]).
    فهنا صرح الإمام أحمد بالتفريق، واستدل بالآية.
    قال: (و حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان).
    وهذا 4من دقة الإمام أحمد رحمه الله، وحرصه على ألا ينسب له قول، وورعه في ذلك، فهو مرة يقول بالفرق، ومرة يحكي الخلاف ولا يجزم، ومرة يقول: قال الزهري : الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل، ومرة يقول: كان حماد بن زيد لا يفرق، فهو رحمه الله يتورع أن يخطِّئ أحداً من السلف، فهذا من ورع العلماء.
    وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علم الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ في المنقول، وفي المعقول أيضاً، وفي الآراء والاستنباط ما لم يتوفر لأحد في عصره -رحمه الله- بإجماع الأمة، فلم يكن أحد في عهد الإمام أحمد رحمه الله أعلم منه، وقد اجتمعت لديه المزايا والفضائل العظيمة في طلب العلم، وفي الفقه والاستنباط، فقد ورث علم مالك ، وورث علم الشافعي رضي الله تعالى عنهما، واستطاع أن يفصل وأن يميز بين مذهب أهل العراق ومذهب أهل المدينة ، وفصل هذا على هذا بأصول، وأخذ من الشافعي رحمه الله تعالى الأصول والدقة في النظر، وفي الاستدلال، والفهم اللغوي الصحيح، كما أخذ أيضاً الحديث بالأسانيد العالية، وهو جبل في هذا الشأن لا يشق له غبار، ومع ذلك كله نراه عندما يذكر عالماً إماماً كـحماد بن زيد لا يستطيع أن يجزم بأنه أخطأ، وإنما يقول: زعموا، ومرة يقول: حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان.
  4. المفرقون من السلف بين الإيمان والإسلام

    يقول شيخ الإسلام في (ص:243): (كان حماد بن زيد -زعموا- يفرق بين الإيمان والإسلام، وهنا قال: و حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان).
    وسبب التردد والشك هنا أن أئمة وفقهاء الكوفة كانوا موضع الإرجاء، فلعل هذا هو السبب، فكانوا لا يفرقون بينهما، فهو ينسب هذا إلى هذا الإمام منهم.
    قال: (وقال مالك و شريك -وذكر قولهم، وقول حماد بن زيد-: فرق بين الإسلام والإيمان.
    قال أحمد : قال لي رجل: لو لم يجئنا في الإيمان إلا هذا لكان حسناً.
    قلت لـأبي عبد الله : فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ قال: نعم. قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول؟
    قال: هم يصيّرون هذا كله واحداً).
    أي: أن المرجئة يجعلون الإسلام والإيمان شيئاً واحداً.
    قال: (ويجعلونه مسلماً ومؤمناً شيئاً واحداً على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان.
    قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم؟ قال: نعم)، فقد ذكر عنه الفرق مطلقاً، واحتجاجه بالنصوص.
    فهذه رواية، وهناك رواية أخرى أيضاً ذكرها ابنه صالح .
    (قال صالح بن أحمد : سئل أبي عن الإسلام والإيمان، قال: قال ابن أبي ذئب : الإسلام: القول، والإيمان: العمل).
    فانظر إلى الورع، فهذه الكلمة التي قالها الزهري قالها أيضاً الإمام المشهور القوال بالحق: ابن أبي ذئب رحمه الله، وأجاب الإمام أحمد عمن سأله بما قال ابن أبي ذئب، ولم يقل شيئاً من عنده، فقال: قال ابن أبي ذئب : الإسلام: القول، والإيمان: العمل.
    و الزهري يقول: فنرى الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.
    قال: (قيل له: ما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان، وذكر حديث سعد ؛ لأنه أوضح في الدلالة على التفريق بينهما، فهو لم يختر قول من قال: إن الإسلام: القول، بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان، كما دل عليه الحديث الصحيح والقرآن الكريم).
    هذا هو كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعقيباً على ذلك.
  5. ترجيح شيخ الإسلام وحكمه على الأقوال في معنى الإسلام والإيمان

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله في (ص:359): (والمقصود: أن هنا قولين متطرفين -يعني: أن كلاً منهما على طرف- قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة فقط، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الاسم، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد، فهما مترادفان، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم).
    إذاً: هذان القولان ضعيفان، وهما: قول من فهم ذلك من كلام السلف، فيجعل الإسلام، هو الكلمة فقط، أو الإقرار باللسان، ولا يجعل الأعمال الظاهرة داخلة فيه، وهذا قول شاذ، فعنده أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان هي من الإيمان، وأما الإسلام فهو شهادة أن لا إله إلا الله على ما فهم من كلام الزهري ، أو كلام ابن أبي ذئب أو غيره من السلف، وهذا خطأ.
    والقول الثاني: إن الإسلام والإيمان شيء واحد أينما وردا، والمقصود منهما واحد، وهذا أيضاً خطأ.
    والقول الصحيح: هو القول بالتلازم بينهما، وأن المعنى يختلف فيما بينهما بحسب الإفراد والاقتران كما بين الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك ورجح وهو -كما ذكرنا- مختصر من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هنا.
    فالشيخ رحمه الله ذكر اختلاف الأسماء بحسب الدلالة والاقتران، ثم عقب ذلك بإيضاح المثال الذي تقدم ذكره وهو: أن الإسلام والإيمان مثلهما كمثل الشهادتين، فلا تغني إحداهما عن الأخرى إذا اقترنتا، وأينما ذكرت إحداهما دخلت فيها الأخرى، ومثل أيضاً بالنبي والرسول، والتمثيل بالشهادتين أوضح وأبعد عن الخلاف.
    فقد قلنا: إن العبد المؤمن إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فمعنى ذلك أنه مقر بأن محمداً رسول الله، فكذلك إذا قال العبد: أنا مسلم، فمعنى ذلك: أنه مقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وليس معنى ذلك أنه ملتزم بالأعمال والأركان الظاهرة فقط.
    وإذا قال: أنا مؤمن؛ فمعنى ذلك أنه يؤدي أيضاً الأركان الظاهرة العملية، وهي التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام.
    فتبين لنا من ذلك صحة ووضوح ما سبق وهو: أن هذه الثلاثة الأسماء مثل الدوائر، فدائرة الإحسان أوسع الدوائر جميعاً؛ لأنها تشمل الأركان، والواجبات، والنوافل المستحبة، ثم دائرة الإيمان، وهي أقل منها؛ لأنها لا يدخل فيها الكمالات والمستحبات التي تدخل في دائرة الإحسان، ثم دائرة الإسلام، وهي: الإتيان بالأركان الظاهرة.
    فالعبد إن أتى بالأركان الظاهرة -ولا بد في ذلك من أصل الإيمان الباطن -فهو مسلم، لكن لا يكون مؤمناً حتى يأتي بالواجبات، ويدع المحرمات، فإن تعدى ذلك- أي: أتى بالواجبات مع الأركان، وترك المحرمات مع ترك الشرك- إلى الإتيان بالنوافل والمستحبات، ومراقبة الله تبارك وتعالى في السر والعلن، والخشوع، والإخبات، والإنابة.. وغير ذلك من الأعمال فهو في مرتبة أهل الإحسان.
    نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم من المحسنين، إنه سميع مجيب.
    والحمد لله رب العالمين.